مفجع ما وصل إليه الحال بين سوريا وبعض لبنان، ولكنه
ليس مفاجئاً، فحين أطلق الشعبان شعارهما الغنائي
الفيروزي الراسخ في الوجدان ''سوا ربينا'' كان هناك من
تهكم على الشعار بترديد أغنية ''لا أنت حبيبي ولا
ربينا سوا''، ولم تكن الكثرة المطلقة من السوريين
واللبنانيين تجهل هوية المتهكمين، فالذاكرة البعيدة
والقريبة ما تزال مثخنة بالجراح، تحاول أن تتخفف من
أحزان الأمس الفاجعة، حين دمرت حروب الطوائف لبنان
وكادت تخرجه من عروبته· يومها استجار الوطنيون
اللبنانيون بالجار الشقيق فأجارهم، ولم تكن تلك النصرة
لفريق ضد فريق بل كانت نصرة للبنان كله، لإطفاء
الحرائق فوق الرماد وتحته، وكان لابد لسوريا من أن
تردع من يشعل النار حتى وإن كان يرد على النار بنار،
إلى حد تعرضها لإساءة الظن ممن لم يفهموا لغز مواقف
دمشق التي جعلت بعض السوريين يتساءلون يومها بحدة ''نحن
مع من وضد من في لبنان؟''· وكان على المرتابين أن
ينتظروا بضع سنين حتى يطمئنوا إلى أن هدف سوريا هو ردع
المعتدي كائناً من كان، وإطفاء حرائق الفتنة، والحفاظ
على سمة التوازن في المجتمع اللبناني· ومع أن المهمة
السورية كانت تلبية لنداء الشرعية اللبنانية، فإنها
كانت كذلك إغلاقاً لنوافذ قد يتسرب منها الشر إلى
الشام، وتصير ثغرة لإسرائيل العريقة في النفوذ في ليل
بيروت، فليس سراً أن ''الموساد'' ركز نشاطه على بيروت،
ومصادر ''الموساد'' تباهي بنجاحاتها، غير آبهة بانكشاف
الأسرار، وحسبك قصة ''شولا كوهين'' المثيرة وصاحبها
ضابط الارتباط الإسرائيلي ''إدوار هيس'' الذي هيأ لها
بدء مهمتها الناجحة، وقد كشفها السوريون قبل أن يظهر
عندهم ''كوهين''، لكن انكشاف شبكة لا يعني توقف ''الموساد''
عن زرع الشبكات التي تجد في توجهات بعض الانعزاليين
بيئة لمزيد من النشاط، بهدف تحقيق حلم إسرائيلي معلن
في العديد من الأدبيات الإسرائيلية، وقد عبر عنها ''موشي
شاريت'' في مذكراته عام 1952 حين قال ''إن إخراج لبنان
من دائرة العالم العربي ودمجه مع إسرائيل أمر مشجع
للغاية، فهو يفتح الباب أمام إعادة اصطفاف بعيدة المدى
في التركيبة السكانية للشرق الأوسط''·
ومن يريد استزادة في المعلومات فسوف يفاجأ بأسماء
الشخصيات التي عقدت اتفاقات مع الصهيونية العالمية
لتحقيق هذه الرؤية، والأمر ليس سراً فقد فضحته تفاصيل
وأهداف الحرب الأهلية التي يخشى الوطنيون اللبنانيون
أن يكون مسلسل الاغتيالات الراهنة تمهيداً لتحقيق
أهدافها القديمة التي أفشلها التحالف اللبناني الوطني
مع السوريين، وبعضهم يستعيد مأساة مستصغر الشرر الذي
أذكى النار الكبرى، فقد كان اغتيال النائب اللبناني
معروف سعد بداية أحداث صيدا الدامية·
وكرت سبحة الاغتيالات في لبنان لتذكي الأوار ولتكبر
ساحة الدم حتى صارت حرباً مدمرة، فأما المفارقة الكبرى
بين ما حدث في أواسط السبعينيات وبين ما يحدث اليوم
فهو أن الوطنيين اللبنانيين عامة كانوا أشد وعياً
لأهداف ما يحدث وللمخبوء من المؤامرات فيه، وهذا هو سر
انتصارهم وقدرتهم على إفشال مخططات وأهداف مجرمي الحرب
وصناعها، وبفضل هذا الوعي، وبفضل الدخول السوري إلى
الميدان تم الحفاظ على وحدة لبنان، وحين وجدت إسرائيل
نفسها تخسر مشروعها قامت باجتياح لبنان، ونفذت جرائم
بشعة كتلك التي كانت في مخيم صبرا وشاتيلا، وتمازج
الدم السوري واللبناني ليعقدا معاً ما سماه الحريري
الشهيد فيما بعد ''وحدة المصير بين بيروت ودمشق''·
وتصاعد الدعم السوري لاستقلال لبنان ووحدته حتى نهضت
دولته، واستقرت مؤسساته، وأمن مجتمعه، وتمكنت مقاومته
من تحقيق انتصار الإرادة الصلبة· وقد غابت عن كثير من
الناس حقيقة أن إسرائيل التي هزمت في ظرف لم يساعدها
على تحقيق مآربها، لم تتنازل عن مشروعها، وهي تعلم أن
لها في لبنان من أعداء العروبة من يشجعونها على معاودة
الكرة، وقد نضجت لها الظروف، ولا سيما بعد أن ابتلي
العرب بتهمة 11 سبتمبر فبات همُّ الغالبية منهم أن
يدرؤوا التهمة عن أنفسهم باسترضاء الأميركيين، وبات
بعضهم يتشهى لو أنه يتخفف من عبء الإسلام كله، بل إن
بعضهم تخفــف مــن عبء العروبــة·
والمفجع أن بعض النخبويين من كتاب ومفكرين يتعامون عن
حقيقة اغتيال الحقيقة، وأقول يتعامون لأنني لا أستطيع
أن أصدق أنهم فقدوا البوصلة واقتنعوا بما يروج الإعلام
الصهيوني وذيله العربي، وقد يقع في تلك التعمية من لا
يجيدون قراءة آية من القرآن، أو رواية بيت شعر عربي،
ولكن المذهل أن يقع في الفخ كتاب محترمون من وزن
الدكتور رضوان السيد مثلاً، فقد ذهلت حين قرأت مقالته
المنشورة في ''الاتحاد'' (وجهات نظر)، بتاريخ 18/ 12/
2005 تحت عنوان ''قتيل لبناني آخر··· فما العمل؟''،
وعجبت كيف تغيب إسرائيل عن رؤية باحث لبنانــــي
مــــن طــــراز السيــــد، أهـــي عنده فــــوق
الشكــوك والشبهــــــات؟ وهو إذ يستعرض ما يدور من
تكهنات حول من قتل (الشهيد) جبران تويني يلف ويدور
ليوحي بأن سوريا وبقايا أعوانها في الأجهزة الأمنية هم
الذين قتلوه، وتكاد تغيب كلمة إسرائيل عن مقالته، بل
عن رؤيته، ولو أن غيره يقول ذلك لفهمنا حرصه على ألا
نقع فيما يسمونه لنا فخ ''نظرية المؤامرة'' التي باتت
تصلح فقط لاتهام سوريا أما حين يكون الحديث عن إسرائيل
فإن أي احتمال شك بدور لإسرائيل هو غيبوبة الفكر
العربي الغارق في نظرية المؤامرة التي تجعل ''المتخلفين''
من العرب يرمون كل أخطائهم على شماعة إسرائيل وما
يزالون يتصورون أنها لهم عدو!
ولعل هؤلاء يستبعدون إسرائيل لأنها اعتادت أن تغتال
العرب في وضح النهار، وأن تلقى الدعم والتأييد
والتهاني من سادة المجتمع الدولي حين تقتل عربياً
شريفاً كما حدث يوم اغتالت الشيخ أحمد ياسين وبعده
الرنتيسي، ولكن المفكر العربي يستبعد أن تكون يد مجرمة
غريبة قتلت جبران تويني صباح اليوم الذي تستعد فيه
سوريا لمواجهة في مجلس الأمن، ولعل أعداء سوريا، حتى
من بعض اللبنانيين، كانوا يخشون أن تفتر همة مجلس
الأمن ضد سوريا، وأن يكتشف المجتمع الدولي فراغ تقرير
ميليس من أدلة أو حقائق، فكان لابد من حدث جلل يعيد
الزخم ضد سوريا، وكان اختيارهم لجبران مع إسراع جنبلاط
وجوقته في اتهام سوريا واضح الهدف، لكنه واضح التلفيق
كذلك· فجبران يكتب ضد سوريا منذ أن ولدته أمه، ولو
كانت سوريا تضيق به إلى حد التفكير باغتياله لما
انتظرت سنين طوالاً كي تتخلص منه، فقد كان في حمايتها،
ولم نكن في الشام نشعر بأبعد من العتب على جبران،
ولعله تحدث إلى أبيه عن هذا العتب اللطيف، وقد حملته
إليه بنفسي ذات يوم قبل نحو عامين حين دعاني إلى عشاء
كريم وناقشت معه موقفه وأسبابه، ويومها قلت لجبران،
إننا عاتبون عليك لأنك لم تحفظ سيرة جدك جبران، ونعجب
كيف تنسى أن دمشق هي التي حفظت للبنان هويته واستقلاله
ووحدته· ويومها كان الرجل سمحاً لطيفاً، وكان قبل يوم
قد كتب مقالة عنيفة ضد فاروق الشرع، فقال لي هاتِ
مقالة ضد مقالتي وسأنشرها في ''النهار''، وكان ذلك،
وقد نمت العلاقة بيننا، واتفقنا على أن ثمة سوء فهم
لدور سوريا، وأننا في الشام لا ننكر ما يقع فيه بعض
السوريين واللبنانيين من أخطاء فادحة تسيء إلى
البلدين، وبالطبع لم يتوقف جبران عن كتاباته ضد سوريا
حين كانت قواها الأمنية على مقربة منه· ولم نتوقف عن
العتب عليه، ولكننا كذلك لم نتوقف عن احترام كل ذي قلم
وفكر حتى وإن خالفناه الرأي، وحسبنا دليلاً أن كتاب
المعارضة السورية الوطنية كانوا يكتبون في ''النهار''
ليل نهار، وهم جميعاً على صلة حميمة بجبران، فإن لم
يصدق أعداء لبنان أننا أسوياء، فالعجب كل العجب أن يقع
في الفخ مثقفون كانوا حتى الأمس القريب أصدق الأصدقاء
لسوريا كما كانوا يدعون!