تستدعي القمة الإسلامية التي انعقدت في مكة المكرمة طيف الكواكبي إلى الذاكرة، لأنه كان أول من دعا إلى قمة إسلامية دولية في أم القرى، والطريف أن الأسئلة التي طرحها المفكر السوري الحلبي عبدالرحمن الكواكبي (قبل مئة عام وست سنين) ما تزال هي ذاتها التي يطرحها المشاركون في القمم الإسلامية، وبخاصة في قمة مكة الراهنة· ومع أن قمة الكواكبي كانت افتراضية فإن وقائعها شديدة الدقة والضبط، فقد بدأ مؤتمر الكواكبي يوم الخامس عشر من ذي القعدة عام 1316 هجرية الموافق 28 مارس سنة 1899 ميلادية واستمر خمسة عشر يوماً، وأقيمت فيه اثنتا عشرة جلسة، وشارك فيه ممثلون عن كل البلدان الإسلامية، وحدد ثمانية وأربعين قضية للحوار، أهم ما يعنينا منها اليوم ما سماه الكواكبي (حاجة الأمة إلى الانتقاد في مجال الاعتقاد) وهذا هو جوهر ما تناقشه القمة الإسلامية الاستثنائية الراهنة· فقد انتقد الكواكبي استفحال الجهل وغلبة المدلسين، وانتشار الغلو والتطرف في الدين، ولئن كان عصر الكواكبي قابلاً لظهور الغلو والتطرف بسبب الجهل المطبق في مجتمع مغلق سدَّت عليه منافذ العلوم قروناً فإن تفسير ظاهرة التطرف في أواخر القرن العشرين يحتاج إلى دراسات تبحث عن سر بواعث هذا الغلو المنافي لطبيعة الإسلام داخل الخطاب الديني وخارجه، وهذا ما لا يغفل عنه الباحثون بالطبع· ولكن التركيز على الخطاب الديني وحده يهمل أسباباً ذات شأن من أهمها خطاب السياسة العربية وعجز المفكرين عن بناء جسر متين يصل بين الفكر الإسلامي والفكر القومي أو العلماني أو الليبرالي عبر مئة عام من التفكير سادت فيها حالات من النبذ والإقصاء بين الفرقاء، واستبعدت الديمقراطية التي تتيح لكل ذي فكر أن يعبر عن فكره، وباتت المشاركة السياسية في العديد من الأقطار العربية ذات طابع شكلاني بينما كبرت صلاحيات السلطة المطلقة التي هي مفتاح الفساد، وفي بعض البلدان أهمل التعليم الديني وترك للعمل في الخفاء، فنمت في الظلمة أفكار انتقامية ثأرية، تكفر المجتمعات الإسلامية· وأعتقد أن أعداء الإسلام وجدوا في تلك النزعات العدوانية قوة قادرة على الفتك من الداخل، فأمدتها بالسلاح، وساعدتها في إيجاد المنابر، حتى انقلب السحر على الساحر· ويضاف إلى البعدين السياسي والديني بعد ثالث مهم هو البعد الاقتصادي، فقد تسبب إضعاف الطبقات الوسطى في المجتمعات العربية والإسلامية بظهور طبقتين أولاهما قليلة العدد، ترتبط بالسلطة ومصالحها على الغالب، وهي وحدها التي تمتلك معظم الثروة الوطنية، وأما الثانية فهي الكثرة الساحقة من المواطنين الذين تحولوا إلى مهمشين يعانون من الفقر ويعيشون ظروفاً صعبة معقدة، بسبب فشل السياسات الاقتصادية وسوء التخطيط الإداري والظلم في توزيع الدخل القومي حتى في البلدان الأكثر غنى في منظومة البلدان الإسلامية·

 ولقد شكل غياب الطبقة الوسطى حالة من الضعف الفكري والثقافي العام، لأن هذه الطبقة هي الحامل الوطني للقضايا الكبرى وللنهضة والثقافة والتقانة والإبداع، وغيابها أو ضعفها وتراجعها إلى طبقة فقيرة شبه معدمة ترك آثاره الواضحة في تخلف الأدب والفن والصناعة والتجارة وما إلى ذلك مما كان ناهضاً ومبشراً بتقدم مطرد حين كانت هذه الطبقة حاضرة بقوة في المجتمعات العربية والإسلامية·
 لقد مر حين في القرن العشرين أصبح فيه المفكرون والمثقفون والمتعلمون في أدنى درجات السلم الاجتماعي مع صعود مفاجئ لفئة من الجهلاء والمنتفعين والمتسلقين والمهربين وسماسرة الفساد، الذين استولوا على ثروات البلاد، ووجد الشباب أنفسهم بلا قضية وطنية، حتى إن الأدبيات الشابة في بعض البلدان العربية كانت ترد أسباب فقرها الإبداعي بالقياس إلى ما قدم الآباء إلى كونها تعيش بلا قضايا كبرى حيث بات جل همها تأمين فرصة العمل ولقمة العيش، ولا سيما بعد أن تمت خصخصة القضية الفلسطينية بعد اتفاقات السلام التي لم تحقق السلام، وبعد أن بات الحديث عن الوحدة العربية مدعاة للسخرية مع بدء تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ· وبعد أن فقد كثير من الشباب أملهم في الحصول على مواقع مسؤولية قيادية في أوطانهم حين طال أمد بقاء الأجيال السابقة في مواقعها القيادية، وصار العمل السياسي محتكراً في بعض البلدان، بل استاتيكياً لا يتيح فرصة لإبداع أو تغيير، وهذه الحالات بما فيها البطالة والعوز والشعور بالعدمية واللاجدوى كلها تقدم البيئة المناسبة لولادة أفكار انتقامية أو خاطئة·

 إنني أدرك أن هذا النوع من التوصيف السريع بما تقتضيه مساحة مقال في صحيفة يختزل المشكلة ولكنني أود أن أشير فقط إلى أهمية إعادة بناء حضور فكري وثقافي للطبقة الوسطى التي أنتجت عبر عقود من القرن العشرين نهضة ثقافية مهمة، نما فيها الحراك الفكري الحضاري الذي باشرته الأمة منذ أواخر القرن التاسع عشر، ووصل في الستينيات إلى ذروة فكرية لكنه سرعان ما تراجع مع انهيار دور الطبقة الوسطى التي فهمتها الثورات والحركات الشعبية فهماً خاطئاً، ورآها بعضهم برجوازية ظالمة، وتجاهل دورها في تحقيق الاستقلال، وفي بناء أسس النهضة للدولة النامية، وقد بدأت بعض الدول العربية والإسلامية التي شهدت تراجعاً لدور هذه الطبقة بمراجعة نقدية لما حدث، ولا سيما في مرحلة صدور قرارات التأميم المستعجلة التي لم تفرق يومها بين الرأسمالية الكبيرة وبين البرجوازية الصغيرة الناشطة·

 ولعل اسم الطبقة (الوسطى) يذكر بما يدعو إليه اليوم علماء الدين المتنورون مما يسمونه (الوسطية) فقد كانت هذه الطبقة وسطى حتى بالمعيار الديني، فهي طبقة تكره الغلو والتشدد وتميل إلى اليسر والتسامح، وتغض الطرف عن الذنوب واللمم، وتدرك أن الدين على شموليته الاجتماعية هو حالة فكرية تقوم على القناعة العقلية والنفسية وأنه لا إكراه في الدين، وهي تفهم أن التمسك به أو التفلت منه على صعيد فردي هو حالة وجدانية مرتبطة بالفرد الذي يقوى إيمانه ويضعف· وهي تهتم بالشكل العام، وتأخذ بالظاهر، وتدرك أن الإسلام لم يأمر بأن تشق قلوب الناس كي يعرف المؤمن من الكافر، فقد يصبح المرء مؤمناً ويمسي وهو كافر، والعكس ممكن، ولا وسيط بين العبد وربه· وهي لكونها طبقة وسطى فهي طبقة جامعة، تأتلف فيها كل الأديان التي يؤمن بها المواطنون·
 إن المراجعة النقدية ضرورة مهمة لتفحص النتائج وتقويمها، وأجد أن تقوية حضور الطبقة الوسطى سيحقق الوسطية التي تنشدها المجتمعات الإسلامية بشكل عفوي، لأن هذه الطبقة الواعية حاملة القضايا الوطنية لا تقبل بطبيعتها الانفتاحية وقابليتها الديمقراطية ظهور أية أفكار متطرفة أو عنيفة، بل هي سرعان ما تواجهها بالفكر والرأي الآخر، وليس بالعنف الذي يولد عنفاً، وهي تقضي على الظاهرة بسد الذرائع، وكبح الأسباب·

 وأؤكد على أن ظهور التطرف الفكري أو الديني في تجلياته السياسية لا مبرر له ولا حجة، فهو حالة شاذة، وانحراف يجب أن يقوّم بقوة الفكر السليم وبقوة القانون العادل، وبالحذر من تدخل خارجي يدعمه ويدفعه إلى تحطيم الأمن الاجتماعي، وأؤيد دعوة الشيخ محمد بن زايد إلى ضرورة نبذ المجرمين من المتطرفين من الإسلام والفتوى بإخراجهم من الملة، لأنهم صاروا أعداء الإسلام، يشوهون صورته، ويهددون أمن المجتمع ومستقبله، بل هم يجعلون الناس ينفرون من الإسلام ما دام في نظرهم مسؤولاً عن الظاهرة وهو منها براء·

 لقد كان من مفارقات مؤتمر الكواكبي الذي نذكره بمناسبة انعقاد مؤتمر مكة أنه يقدم مداخلات تصلح أن يأخذها المؤتمرون شعارات لهم من ذلك قوله ''إذا لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها'' وقد انتقد المقولة المتخلفة الشهيرة ''التسليم أهون من التبصير، والتقليد أستر للجهل'' وحمّل المسلمين صراحة مسؤولية ما آلوا إليه من ضعف وهوان ''فهم المتسببون بما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار''·

 إن الحاجة ماسة لقيام حركة نقدية واســعة للخطابين الديني والسياسي يشــارك فيهــا علماء الدين ومثقفو القومية والليبرالية والعلمانيون وكل المسؤولين عن صنع الغد، وهــــم جميعاً بناة الطبقــــة الوسطــــــى التي تنتــــج الوسطية في كــــل شـــيء، وقـــــد جعلنــــا اللــــه سبحانــــه وتعالـــى أمــــة وسطاً