Syrian Embassy in U.A.E

من سوء حظ البشرية أنها باشرت القرن الجديد في 11-9-2001 بعملية إرهابية مريعة وجهت مسار البشرية إلى الغرق في مستنقع دم، رغم أن السنوات الأخيرة من القرن العشرين كانت بشرت الناس بولادة نظام جديد تنتهي فيه الصراعات والحروب، وتحل فيه المشكلات الدولية بالتفاهم والتفاوض، ويكون شعاره السلام والأمن، وتنشر فيه مبادئ الديمقراطية الدولية، وتنهض مجتمعاته على مبادئ العدل والمساواة، وتصان فيه حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب· وقد نهضت الولايات المتحدة في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين لمواجهة أضخم مشكلات القرن، وهو الصراع العربي الإسرائيلي، وتوجهت إلى حله عبر التفاوض وصولاً إلى السلام، واستجاب العرب لندائها ووضعوا رحالهم في ركابها، ولكنها تجاهلت أن على الوسيط أن يكون نزيهاً ومحايداً وألا يعمل لصالح طرف دون الآخر، ووجد العرب أن وسيطهم إلى السلام لا يعنيه شيء غير تحقيق طموحات إسرائيل، وتقديم كل طاقاته لتنفيذ مخططاتها، وهي التمسك بالأرض العربية المحتلة، وإقامة كيان هش هزيل للفلسطينيين يحمل اسم دولة، ورسم خريطة جديدة للمنطقة، بشكل يضمن أمن إسرائيل ويحقق لها النفوذ المطلق، ويتطلب ذلك إضعاف العرب والمسلمين عامة، وليس سراً أن العروبة والإسلام هما اللذان تدور حولهما كل الأفكار في دنيا العرب، وهما يمثلان النسيج الداخلي للهوية في المنطقة·
كان شيمون بيريز قد وجد الحل حين أطلق رؤيته للشرق أوسطية التي تذوب فيها الانتماءات لصالح انتماء جغرافي واحد، هو المكان الذي تشطب من عنوانه ومضمونه كلمتا العروبة والإسلام، لتحل محلهما انتماءات للشركات والمؤسسات العابرة للقارات بشكل يتجاوز الانتماءات العرقية والدينية· وقد هلل بعض المثقفين العرب لهذه الدعوة الإنسانية الأممية ووجدوا فيها خلاصاً من مآسي الانتماءات الصغيرة إلى الأديان والقوميات والأعراق والإثنيات الضيقة المتصارعة على قضايا عصبية· وقد تزامنت هذه الدعوة الشرق أوسطية مع نهوض سريع وحثيث لعالم جديد يدعو إلى تجاوز الأعراق والأديان في كل العالم الذي تتم صياغته في عولمة معرفية جديدة توحد الناس على أسس إنسانية محضة بحيث تجمعهم سمة الإنسان وحقوقه المصونة ومن ثم المصالح المشتركة، وتحكمهم قيم الديمقراطية· وقد تشكك العرب عامة في أهداف هذه الدعوة كما تشككت شعوب الأرض في أهداف العولمة، ولكن أحداً لم يصدر رفضاً حازماً في البداية، حيث فضل القادة السياسيون والمفكرون الوطنيون التريث حتى قراءة ونقد مظاهر وتجليات الطريق التي يُدعون إلى السير فيها، وكانت أولى تجلياتها عولمة الاقتصاد عبر اتفاقية ''الجات'' التي بدأ الإعداد لها منذ عام 1947 في جولة جنيف لتعلن بعد جولات عديدة في جولة الأورغواي عام 1994 عن ولادة منظمة التجارة العالمية·
وكانت الصدمة الأولى للشعوب النامية أنها وجدت نفسها ضعيفة كسيحة أمام دول عظمى لها وحدها حق التصرف في ثروات البشرية، ووجد القادة السياسيون في البلدان النامية أنهم مجبرون على تقديم طلبات انتساب إلى النادي الاقتصادي الدولي الجديد، لكن شروط العضوية فيه تنتقص السيادة الوطنية، وتجبرهم على تقديم تنازلات تتعارض مع مصالح بلادهم التنموية· فالمنظمة لا تضم أكفاء أو أنداداً،فالدول الصغيرة باتت لا وزن لها أمام دول الأغنياء الأقوياء الذين يملون على الضعفاء الأوامر، ولا يحفلون بأسس الديمقراطية الدولية، ولم تكن الدول الصغرى وحدها هي التي تخوفت من عملاق عولمة الاقتصاد بل إن دولاً كانت كبرى في الماضي القريب باتت تشعر بالقلق أمام التفوق الأسطوري للولايات المتحدة، مما دفع بدول عديدة لمواجهة الخطر عبر التكتلات، وسرعان ما وسع الاتحاد الأوروبي حدوده وزاد عدد أعضائه، وأصدر عملته الجديدة ''اليورو'' ليكون له حضور قوي أمام الدولار· وسارعت دول أميركية إلى تأسيس ''النافتا'' ولكن الولايات المتحدة ابتلعتها بحضورها الطاغي، كما تم من قبل ابتلاع تجمع نمور آسيا ومنتدى شنغهاي· ولم تشفع للبشر مظاهراتهم المعادية للعولمة الظالمة، ولا سيما حين باتت قدراً محتوماً لا مفر منه، ولا سيما بعد أن تجلت ظاهرة العولمة الفضائية بطابع ثقافي أحادي ليس أقل خطراً على الخصوصيات من التجليات الاقتصادية· فمع انتشار الأقمار الصناعية سقطت حدود الحماية الثقافية التقليدية وبات التدفق الإعلامي باتجاه واحد يضرب الجذور الثقافية للشعوب النامية، ويجعل لغاتها المحلية مهددة بالتراجع بل الموت لصالح اللغة الإنجليزية، حتى أن الفرنسيين أنفسهم أعلنوا قلقهم على مستقبل الفرنسية، وراحوا يصعدون اهتمامهم بتجمع الفرانكفونية، وبدأت الأمم الكبرى تبحث عن وسائل حماية لخصوصياتها الثقافية أمام الحوت الأميركي الذي بات قادراً تقنياً على ابتلاع الكرة الأرضية·
كانت ثورة المعلوماتية والاتصالات قد أسهمت عبر انتشار الإنترنت الذي تسيطر على خزاناته الولايات المتحدة حصراً، في هز عروش الثقافات بل الحضارات التقليدية، وبات الأمر مقلقاً للعرب حين وجدوا أنفسهم مهددين بالخروج من التاريخ ولا سيما حين أعلن هنتينغتون إنذاره عن صراع الحضارات مذكراً بنبوءة ''برنارد لويس'' عن صراع الثقافات، وممهداً لإعلان فوكوياما المضطرب عن نهاية التاريخ·
وكان بعض العرب مطمئنين إلى علاقاتهم القديمة مع الغرب، وإلى صداقة مقَنّعة مع الولايات المتحدة التي لم يكن قد برز العداء العربي لها بشكله الدراماتيكي، فقد كان كثير من القادة السياسيين ما يزالون يأملون أن تجد الولايات المتحدة حلاً سلمياً للصراع العربي الإسرائيلي، لأن ذلك سيفتح الآفاق أمام تعاون حميم بين العرب والأميركان· وقد تضاءلت لبضع سنوات أواسط التسعينيات حدة التشكك، حتى أن الرئيس حافظ الأسد الذي تمكن من عقد صلة طيبة مع كل الرؤساء الأميركان الذين كان يلتقي بهم في جنيف أو في دمشق، أدخل صلته مع بيل كلينتون إلى الإطار الشخصي حين شعر كل من الرجلين بمودة حقيقية نحو الآخر، وكان من الممكن أن تتم في عهد كلينتون تسوية سلمية تاريخية لولا أن أعداء السلام في إسرائيل قاموا بانقلاب صامت على مبادئ مدريد، فقتلوا رابين وأنكروا وديعته، وأغرقوا بيل كلينتون في فضيحة مونيكا، وحركوا اللوبي الصهيوني الإعلامي ضده، وأظهروا له ضعفه عبر التصفيق المريب لنتانياهو حين دخل الكونغرس في تظاهرة احتفالية مدهشة، وأعلن أنه سيحرق واشنطن وكان مستشاروه يستعدون لتسلم مناصبهم في الإدارة الأميركية الجديدة·
كان واضحاً أن الزمام قد أفلت من أيدي الحكماء الراغبين في إحلال السلام حقاً، والمفارقة أننا اليوم نجد في من كنا نرتاب منهم من أمثال ''أولبرايت'' و''روس'' وحتى ''مارتن إنديك'' مفاوضين معتدلين وجادين بالقياس إلى من جاء بعدهم من ''المحافظين الجدد'' الذين رفضوا البحث عن السلام، وصار همهم إرغام العرب على قبول الخريطة الجديدة للشرق الأوسط وقد سمي الكبير لأن رقعته الجدية باتت تشمل العالم الإسلامي كله·
إن وضوح هذا الهدف الأميركي الإسرائيلي الاستراتيجي يفسر خفايا ما يحدث الآن من أجل تحقيقه، فغزو أفغانستان واحتلال العراق والتهديدات المستمرة لإيران، والضغوط المتصاعدة على سوريا ولبنان كلها تتم بهدف الوصول إلى هذا الهدف· وبالطبع لابد من إيجاد ذرائع ومبررات لإقناع الشعوب عامة والحلفاء بخاصة للمشاركة في تنفيذ هذه الاستراتيجية التي يقضي تنفيذها القضاء التدريجي على الركنين الأساسيين الذين تنهض عليهما المنطقة وهما (العروبة والإسلام)، فكان لابد من تفجيرات سبتمبر مثلاً، لكي تمتلك الولايات المتحدة مبرراً للهجوم على الإسلام باسم مكافحة الإرهاب، مع أن العالم كله يعرف أنها هي التي أنشأت منظمة ''القاعدة''، وساعد الغرب كله حركات التطرف الهاربة من الأنظمة العربية حين وفر لها الملجأ والعون المادي ومنابر الإعلام التي قدمت هؤلاء السذج أو العملاء بشكل ينفر السامع والرائي من الإسلام كله·
وكان لابد من ذريعة لاحتلال العراق فتم الترويج لأسلحة الدمار التي تتيح للعراق كما قال الإعلام يومذاك أن يدمر العالم كله، واليوم يتم التخويف من قنابل إيران، وقريباً قد يفتح ملف قنبلة باكستان، وأما سوريا فلن يكون مقنعاً تكرار سيناريو الاتهام بوجود أسلحة دمار عندها ولا سيما أن البيت الأبيض يعاني من افتضاح الكذبة ويخفق في لفلفتها، لذلك كان لابد منبتكار ذريعة دراماتيكية جاءت في اغتيال الحريري، وترافق اتهام سوريا بها مع إنذار دولي لسوريا بأن عليها أن تغير من استراتيجياتها وأن تقدم التعاون المطلوب مع دول الجوار· وبالطبع تفهم سوريا أن المطلوب منها التنازل عن أرضها المحتلة لإسرائيل التي أعلنت أنها متمسكة بالجولان، وتقديم الدعم والمساهمة في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يتيح لإسرائيل أن تكون سيدة الشرق الكبير، المقسم إلى دويلات صغيرة تقوم على أسس عرقية وطائفية ومذهبية متصارعة·
إنني أفهم المشكلة على هذا النحو، وأتمنى أن أكون مخطئاً، وأرجو أن يوضح لنا الداعون لتغيير أفكارنا العربية والإسلامية مكامن الخطأ في هذا الفهم، فقد تكون ثمة حقائق لا نعرفها، فإن كنا واهمين تعمى عيوننا عن رؤية الخير العميم الذي تدعونا إليه الإدارة الأميركية حين تطالبنا بالسير خلف أهدافها في المنطقة، فمن المفيد أن نتخلص إذن من سوء الفهم والظن· ونحن بالتأكيد لن نرفض ما هو خير لنا حين نطمئن إلى أنه خير، ولا سيما أننا لا نكره الشعب الأميركي بل نحن نشاركه الضيق والتذمر من إدارته التي تشوه وجه أميركا الحضاري، وتجعله عدوانياً مخيفاً حين تسيطر على إرادة الشعوب، وتهدد البشر بالحصار والحروب·