يدرك الجميع في سوريا،
نظاماً ومعارضة وشعباً مقهوراً غاضباً أن الهجمة
الأميركية عليهم لا علاقة لها باتهامات تقرير ميليس
للنظام الأمني في سوريا ولبنان بمقتل الحريري، وإذا
كان ميليس يسأل عمن قتل الحريري فإن الجواب المطلوب
سماعه في أميركا هو إعلان سوريا الإذعان الكامل
لإسرائيل التي أعلنت أنها لن تتنازل عن الجولان،
ويقتضي ذلك بالطبع الإذعان للمشروع الأميركي الصهيوني
الذي بدأ تنفيذه في المنطقة باسم الشرق الأوسط الكبير
وتم التفاهم عليه مع الدول الأوروبية التي كانت مترددة
تبحث عن موقع لها فيه مثل فرنسا، وليس سراً أن سوريا
تجسد الرفض لهذا الإذعان، وهي بذلك تتماهى مع موقف
الشعوب العربية· والإدارة الأميركية لا تنكر أن الباب
الرئيسي للدخول إلى رضا البيت الأبيض يقع في تل أبيب،
وقد صرحت السيدة كوندوليزا بأن مشكلة سوريا ليست مع
الولايات المتحدة بل هي مع جيرانها، وهذا تهرب
دبلوماسي من فجاجة القول إن مشكلة سوريا هي مع إسرائيل
وحدها، ولكن كان لابد من جمع جيران آخرين بهدف التعمية
وكان أول الجيران لبنان، وكان لابد من التضحية بكبش
ضخم من وزن الحريري رحمه الله لإحداث فاجعة ضخمة تكون
مبرراً لتوتير العلاقة بين سوريا ولبنان، واغتيال
الحريري بالذات يحقق سلة أهداف صهيونية بضربة واحدة·
فهو أولاً يحول سنة لبنان قبل غيرهم من موقع الحليف
التاريخي الصامت لسوريا إلى موقع الكاره لها في
استغلال لحالة الضيق اللبناني عامة من الفساد المريع
الذي سقط فيه سوريون ولبنانيون كانوا شركاء في الفساد·
كما أن اغتيال الحريري مع اتهام سوريا بقتله على الفور
وقبل وصول أي شرطي لساحة الجريمة، يقدم مادة تحريض
قوية ضد سوريا يستخدمها أعداؤها المتربصون الذين
أعلنوا حالة مدهشة من الحقد الدفين في مثل هتافاتهم
التي حفرت في ذاكرة السوريين (توت توت سوريا عم تموت)
والمفجع أن الهتاف يتعلق بموت سوريا كلها شعباً
وتاريخاً وحضوراً، ومثل هذا الهتاف لا يمكن بحال أن
يكون هتافاً لبنانياً شعبياً استراتيجياً، لأن الوجدان
اللبناني يرفضه وهذا ما عبرت عنه مسيرة الوفاء الشهيرة
لسوريا، وستثبت الأيام القادمة أن اللبنانيين جميعاً
ومعهم تيار المستقبل نفسه سيقولون لسعد الحريري ''على
مهلك، نحن معك لمعرفة القاتل، ولكننا لسنا مع موت
سوريا وتدميرها، فأرواحنا فداء لها مثلما كانت أرواح
عشرات الآلاف من السوريين فداء للبنان''· ومن يراهن
على عداوة تستمر بين سوريا ولبنان فهو واهم، لم يقرأ
التاريخ ولا يجيد قراءة المستقبل·
إن المشكلة الراهنة ليست في مضمون تقرير ميليس فهو لم
يقدم أية إدانة لسوريا، وإنما استخدم ذريعة لممارسة
مزيد من الضغط وتضييق الخناق عليها، وقد فندت سوريا
زعم ميليس بأنها لم تتعاون، وأكدت حرصها على استمرار
التعاون لأن من مصلحتها كشف الحقيقة، فأما المشكلة فهي
في صياغة موقف سوريا من مستقبل المنطقة، ونتذكر التهمة
المستمرة لسوريا بأنها لا تقرأ المتغيرات بمعنى أنها
لا تدرك أن الولايات المتحدة أصبحت على حدودها، وأنها
باتت محاصرة من البر والبحر·
الحقيقة أن سوريا تدرك أن العالم تغير، وأن شعارات
الستينيات لم تعد تصلح اليوم، فقد انهار التوازن
الدولي الذي كان يوفر للشعوب المظلومة جداراً استنادياً،
وأصبحت الدنيا اليوم بيد الصهيونية المنتصرة، ولم يعد
مسموحاً في عالم المحافظين الجدد أن ينتقد أحد تصرفات
هذا المارد الذي لا يقبل صوتاً يعارضه، ولكن هل أصبحت
الأمة العربية ومن خلفها الأمة الإسلامية وشعوب الأرض
التي تعد بالمليارات هشة وضعيفة لا تملك غير أن تهز
الرأس أو أن تطأطئه؟
صحيح أننا لا نريد حرباً مع الولايات المتحدة فهي أقوى
دولة في العالم، ولكن هل نقبل أن تفتت أوطاننا العربية
إلى دويلات وأن ندخل بأيدينا عصر الفوضى المدمرة التي
يريدون لنا أن نغرق في بحار الدم فيها؟ إننا نبحث عن
حلول وسط عبر ما ندعو إليه من حوار، لقد أعلنت سوريا
أن السلام هو خيارها الوحيد، ومضت في مباحثات السلام
عشر سنين عجافاً، ولكن الولايات المتحدة أوقفت مساعيها
نحو السلام، وحين خاضت دول التحالف حرباً لتحرير
الكويت كانت سوريا مع تحرير الكويت، ولكن كان طبيعياً
أن تقف سوريا ضد الحرب الراهنة على العراق ليس حباً
بصدام وهو خصمها اللدود حين كان حليفاً لأميركا، وإنما
خوفاً مما حدث في العراق من تدمير لقوى الشعب، ومن
تشتيت لوحدته الوطنية عبر تنمية الانتماءات العرقية
والطائفية فيه· مع ذلك سارعت سوريا لدعم العملية
السياسية في العراق حرصاً على استقرار وأمن شعبه،
وأعلنت أنها ضد العمليات الإرهابية وهي تخشى أن ينسل
الإرهاب إليها من الجوار، وقد استقبلت القيادات
العراقية الجديدة، وأبدت استعدادها لتقديم كل التعاون
الأخوي المطلوب والممكن، وعلى الصعيد الفلسطيني أعلنت
سوريا أنها تدعم العمل السياسي الذي تقوم به السلطة
الفلسطينية، ولم تتدخل في شأن من شؤون الفلسطينيين
الداخلية إلا ما كان مساهمة في دفع الحوار الفلسطيني
وإنهاء الخلافات·
وقد جددت سوريا تمسكها بالسلام عبر المبادرة العربية
التي أهملها الأميركان وكانت فرصة نادرة لإحلال السلام
والأمن في المنطقة، ولكن ذلك كله لم يعجب الإسرائيليين،
فهم يرفضون السلام لأن له ثمناً هو إعادة الحقوق إلى
أصحابها، وهم ينوون التمسك بالجولان، ولذلك يريدون
إضعاف سوريا وإنهاك شعبها، وضرب بنيتها التحتية،
وإغراقها بالدماء والفتن الداخلية·
والخروج من الأزمة الراهنة ليس سهلاً في غياب الدور
العربي والإسلامي، فسيكون كارثة كبرى أن تتعامل بعض
الدول العربية والإسلامية مع سوريا على أنها مدانة بدم
الحريري على شبهة المحقق كما تريد الولايات المتحدة
فتتيح لإسرائيل أن تحقق أهدافها كاملة·
ويخطئ من يظن أن سوريا ضعيفة ولا تملك أن تفعل شيئاً
غير الاستسلام، فالشعب السوري ليس أقل قدرة على
التضحية من الشعب اللبناني الذي حرر بالمقاومة أرضه،
أو من الشعب الفلسطيني الذي أدهش الدنيا بقدرته على
الصمود، أو من الشعب العراقي الذي أغرق الولايات
المتحدة في مستنقع لا تعرف كيف ستخرج منه، أو من
الشعوب العربية كلها التي قدم أبناؤها دماءهم ثمنا
للحرية، ولكننا في سوريا نريد أن نجنب شعبنا الدمار،
وأن نتجنب تحول المنطقة كلها إلى جحيم، فالمحافظون
الجدد يتطلعون إلى استكمال مشروعهم الذي بدؤوه في
العراق وقد سموها هدفاً تكتيكياً، وسموا السعودية
هدفاً استراتيجياً، وسموا مصر جائزة كبرى، حسب وثيقتهم
الشهيرة، وهم يضعون إيران في دائرة الشر، ويعلنون أنهم
يريدون خلق فوضى في الشرق الأوسط الكبير تتيح لهم
إعادة تشكيله على مقاس الحلم الإسرائيلي· إننا ندرك
خطر هذا الجنون الذي سيوسع دائرة الإرهاب، ونرجو أن
يفيق الضمير الإنساني على خطورة أن يتحول مجلس الأمن
الذي ينبغي أن تجد الشعوب من خلاله أمنها، إلى مجلس
حرب، تحاصر من خلاله الشعوب، ويقتل بأمره الأطفال
والنساء والشيوخ، وتقصف المدن وتدمر البلدان، ولا يجد
الشباب بعد ذلك وسيلة للعيش غير مهنة القتل والتدمير
والإرهاب· إنني أناشد عقلاء وحكماء أميركا وأوروبا أن
يوقفوا هذا الطغيان، فهو يحدث باسمهم وعلى حساب
تاريخهم وحضارتهم·
إننا ندعو إلى متابعة الحوار حول كل القضايا في
المنطقة، ونعلن في كل حين أننا دعاة سلام ولسنا دعاة
حروب، ونحن نحتاج إلى مساعدة العالم لكي ننهض ببلدنا،
وننمي قدرات شعبنا، ولنتابع مسيرة الإصلاح التي يعيقها
في الداخل هذا الهجوم الذي يشيع حالة من الاضطراب،
وأنا أدرك حاجتنا الماسة إلى إصلاحات سريعة مبهرة في
كل مناحي الحياة، رغم ما نحن فيه من قلق عام، فاللحظة
الراهنة تحتاج لجهد وطني ضخم تشارك فيه كل قوى الشعب
بلا استثناء لأحد غير أولئك الذين يستقوون بالخارج على
بلدهم، وأرجو أن تنتهي سريعاً كل الخلافات الشكلية أو
المزمنة التي تشتت الجهد بين القوى السياسية الوطنية،
لينصهر الكل في واحد، هو الوطن، ومن فضل الشدائد على
الشعوب أنها تقوي اللحمة الوطنية وترتقي بهم إلى أعلى
مستويات المسؤولية التاريخية، وهذا ما أرجو أن تحققه
الأمة كلها قبل أن تؤكل البلدان العربية واحداً تلو
الآخر·