لعل أجمل ما يمكن
أن توصف به العلاقة بين سوريا ولبنان هو قول نزار قباني "اعتيادي
على غيابك صعب، واعتيادي على حضورك أصعب". وهذا ما حدث بين
سوريا ولبنان حيث لم يكن الغياب أقل صعوبة من الحضور. وقد قرأت
سخرية أحد الكتاب اللبنانيين من قول السوريين إن علاقة سوريا
ولبنان محكومة بالجغرافيا وبالتاريخ فقد قال معلقاً:... فلمَ
لا تكون العلاقة بين سوريا وتركيا محكومة كذلك بالجغرافيا
وبالتاريخ؟. وقد فاته أنها محكومة
بهما حقاً وهذا ما يفسر التواصل الحميم القائم بين سوريا
وتركيا وقد تسامى فوق كل المشكلات. ولكن صلة سوريا بلبنان أعمق
من أية صلة أخرى بين بلدين جارين لأن الشعبين أبناء أسرة عربية
واحدة، وقد كان لبنان على مر الزمان (وحتى قبل أن تصير سوريا
الكبرى بلاد الشام) قطعة من نسيج المنطقة المتوحد, لغة وثقافة
تشمل بلاد الرافدين معه، وهي بلاد سكنها العرب قبل ظهور
الإسلام بقرون عديدة، خلاف ما يزعم بعض المستشرقين الذين
يروجون أن العرب جاؤوا مع الفتوحات الإسلامية من شبه جزيرة
العرب واحتلوا سوريا. فحقيقة ما حدث أن المسلمين جاؤوا لتحرير
سوريا من الاحتلال البيزنطي, وهذا لا ينفي وجود شعوب غير عربية
في سوريا، بعضهم اعتنق الإسلام واندمج في الحياة العربية،
وبعضهم ما يزال محتفظاً بخصوصيته العرقية والثقافية التي تعهد
العرب المسلمون بالحفاظ عليها والدفاع عنها. ولم يفرق الدين
الجديد بين أبناء الأسرة العربية الواحدة قط.
ففي معركة اليرموك وقف المسيحيون العرب من الغساسنة إلى جانب
إخوتهم العرب المسلمين وطردوا معهم المحتلين البيزنطيين، وبقي
الغساسنة وسواهم من المسيحيين العرب على دينهم إلا من شاء
الدخول في الإسلام.
وقد احتضنت المسيحية العربية الإسلام منذ ظهوره. وحين فتح
معاوية بن أبي سفيان لبنان، حافظ على خصوصية جبل لبنان. وكان
للمسيحيين العرب مكانة رفيعة في الحياة السياسية والثقافية في
الدولة الأموية الناشئة. وفي مرحلة لاحقة في العصر العباسي
اتسع هذا الدور وكبر. وحين انهارت الدولة العربية وتعرضت
لغزوين في آن واحد هما الغزو المغولي والصليبي, وقف المسيحيون
العرب مع بني قومهم، وما يزال مسيحيو الغرب يستغربون وقوف
المسيحيين العرب مع المسلمين تحت لواء صلاح الدين في حرب حطين
وما بعدها. وقد عاد الغرب إلى التدخل في المنطقة باسم الدين
لإحداث شرخ في الأسرة العربية مستغلاً غياب التوازن في العلاقة
مع العرب جميعاً خلال الفترة العثمانية. وراح يذكي نيران
الفرقة بين الطوائف والمذاهب، فكانت فتنة 1840 – 1860 في لبنان.
وقد انتهت باتقافية اسطنبول التي قضت باستقلال جبل لبنان. وكبر
التدخل الإيطالي والفرنسي والبريطاني والروسي والنمساوي حتى
التحق الجبل بالثقافة الأوروبية.
وقد استمر الحال حتى وقع لبنان تحت الانتداب الفرنسي عام 1920
حيث عمقت فرنسا إلحاق الجبل بثقافتها. وقد تبدل الحال قليلاً
بعد الاستقلال حين تم اتفاق لبناني ضمني على الحفاظ على وحدة
لبنان وعلى الانتماء إليه، بما يعني تخلي الجبل عن الولاء
للغرب مقابل تخلي الأقضية الأربعة الشهيرة عن المطالبة بالوحدة
أو الانضمام إلى سوريا. وفي فترة الصعود القومي الوحدوي السوري
المصري أوشك التفاهم أن يختل, فعادت الفتنة في لبنان في أواخر
الخمسينيات، وتم إطفاؤها عبر اتفاق ضمني جديد سرعان ما زعزع
توازنه تنامي الحضور الفلسطيني المقاوم في لبنان مطلع
السبعينيات.
ولقد كانت سوريا حريصة منذ الاستقلال على استمرار الاستقرار في
لبنان على صيغة التوافق أو الميثاق الوطني الذي تم في عام 1943
لخوفها من عودة النفوذ الأوروبي إلى المنطقة، ومن إعادة تسييس
الطوائف لصالح الغرب. وأحسب أنه لولا التدخل السوري عام 1976
لكان هناك تدخل غربي كما حدث عام 1860. وقد أدرك العرب جميعاً
خطورة غياب التوازن ولهذا أجمعوا على أن تقوم سوريا بردع من
يخل بالميثاق ويمنح الغرب ذريعة التدخل. وقد أقر المجتمع
الدولي كله مهمة سوريا التي بذلت دماء أبنائها كما بذلت مالاً
وجهداً ضخماً للحفاظ على التوازن لصالح لبنان بما بدا أحياناً
وكأنه ليس لصالحها أو ليس منسجماً مع مبادئها. فقد كانت سوريا
تقف ضد كل من يزعزع الاستقرار والوحدة الوطنية. ومن لم يدرك
طبيعة المهمة السورية لن يفهم ما قد يبدو تناقضاً في مواقفها.
فقد كانت تنقل خنادق تحالفاتها بما يضمن ردع كل من يخرج عن
التوافق ومن يهدد الاستقرار. وهي لم تتحالف مع أحد بدوافع
طائفية أو مذهبية. ولم يكن ممكناً أن تحظى سوريا بإجماع في
لبنان، لكن التاريخ سينصف المهمة القومية الكبرى التي أنجزتها
سوريا وسينصف موقفها من الشهيد الحريري الذي لقي تأييداً
ودعماً كبيراً منها على مدى سنوات رئاسته للحكومات اللبنانية.
ولم يكن الخلاف في وجهات النظر في المرحلة الأخيرة مستعصياً
على الحل، بل لقد بدأ الحل كما بات معروفاً وكان الحريري يستعد
لزيارة سوريا ولكن المجرمين الذين يخططون منذ أمد بعيد لإنهاء
مقولة المسار الواحد والمصير المشترك ، اصطادوا لحظة مضطربة
وسارعوا لقتل الحريري، لكي يتهموا سوريا بقتله, فيتدخل الغرب
من جديد ويعود إلى تمزيق الأسرة العربية الواحدة.
كانت المفارقة أن الذين أطلقوا عاصفة الحقد على سوريا هم
النخبة التي كان بعضها في مواقع السلطة والمسؤولية قبل حين.
وأنا لا أعترض على نقمة اللبنانيين على الفساد أو على الظلم
حين يقع، ولكن كان عليهم ألا يعمموا شعور الحقد على كل سوري،
لأن ما يكرهونه من السلوك السيئ هو ذاته ما يكرهه السوريون
جميعاً. لقد كان من سوء حظ سوريا ولبنان أنهما لم يتمكنا من
إقامة علاقة متكافئة تماماً، فقد كان الحضور السوري بوصفه
عسكرياً يستدعي الشعور بالقوة لدى بعض السوريين، ويستدعي
بالطبع شعوراً بالضيق من بعض اللبنانيين. الحضور اللبناني في
حياة السوريين كان اقتصادياً، وقد طغى في السنوات العشر
الأخيرة على الحضور العسكري السوري. وبدا كأن سوريا تتقرب إلى
لبنان بمنافع اقتصادية. ولم يكن الحضور العسكري أو
الاستخباراتي قمعياً كما صور الإعلام اللبناني الذي أطلق نيران
الحقد على سوريا، وقد شهدت بنفسي كيف يتم التعامل مع السياسيين
اللبنانيين وما يلقون من فيض المحبة والمودة وما بنوا من
صداقات عريقة مع كبار الضباط وكبار المسؤولين السوريين.
وهذا لا ينفي وجود خلل مثير هنا أو هناك لكن سيل المبالغات
أذكى مشاعر خاطئة عند بعض اللبنانيين، حتى وصل الأمر إلى
البينونة الكبرى التي لم تكن في صالح البلدين، وكان لابد من أن
تنتصر الحكمة والروية على الانفعال والنزق. وهذا ما يجعلنا
نشعر بالارتياح للبيان الذي صدر بعد زيارة الرئيس السنيورة إلى
دمشق ونتمنى أن يجد البلدان الشقيقان حلولاً أخوية وعملية لكل
المشكلات بما يحقق مصالح الشعبين، ويفوت على الحاقدين عليهما
ذريعة تمزيق الأسرة العربية وزعزعة أمنها واستقرارها ولا سيما
أن صقور الغرب لا يخفون مشاريعهم، بل هم يعلنون أنهم يسعون إلى
إغراق المنطقة العربية بالفوضى, وهذا ما فعله المجرمون عبر
سلسلة الاغتيالات التي أرادوا أن تكون بذور فتنة جديدة تتيح
لهم التدخل العسكري المباشر.
إنني واثق من أن الذين راهنوا على القطيعة بين سوريا ولبنان
وسعوا إليها سيخسرون الرهان، وعليهم أن يتذكروا أن النهضة
العربية القومية انطلقت من سوريا ولبنان منذ أواسط القرن
التاسع عشر. وقد بات من المفارقات أن يناضل العرب على مدى
سنوات القرن العشرين كي يتخلصوا من حدود سايكس وبيكو، ليبدأوا
القرن الحادي والعشرين بنضال جديد لترسيخ اتفاقية سايكس وبيكو.
|