أثارني
عنوان مقال السيد توماس فريدمان "أين صوت الإدانة الإسلامية؟",
الذي نشرته "وجهات نظر" وفيه تعليق على تفجيرات ميترو الأنفاق
في لندن. فالعنوان يوحي بأن المسلمين راضون عن العملية
الإرهابية، ولو أن كاتب المقال صحفي آخر غير السيد فريدمان ممن
لا يعرفون حقيقة موقف المسلمين وعلمائهم لعذرنا جهله وعدم
متابعته لمئات الفتاوى التي أصدرها كل فقهاء ومفكري ومثقفي
المسلمين، وقد أعلنوا فيها براءة الإسلام من أية جريمة إرهابية
ترتكب باسم الدين.
لقد تجاهل
السيد فريدمان سيل الإدانات الإسلامية الشعبية والرسمية
والفقهية لجرائم الإرهاب. وقد صدرت كما يعلم من الأزهر الشريف
ومن المرجعيات الإسلامية الكبرى في مصر وسوريا والسعودية وفي
كل الدول المسلمة. بل سمعها فريدمان بنفسه من العلامة القرضاوي
حين زاره وأجرى حواراً معه. ولا بد أنه قرأ فتاوى الشيخ الجليل
سعيد رمضان البوطي والعلامة الكبير الراحل الشيخ أحمد كفتارو،
فضلاً عن فتاوى مجامع الفقه الإسلامي والجامعات الإسلامية
والمعاهد الشرعية، ولابد أنه يتابع مقالات كبار المفكرين
المسلمين الذين يستنكرون كل يوم أن يستخدم أحد الإسلام ستاراً
لجريمة قتل، بل إنهم يدينون ما يحدث من جرائم في العراق باسم
المقاومة.
والمؤسف أن
الإعلام الغربي يتجاهل هذه الإدانات، ويركز على بعض ما تنشره
مواقع مشبوهة على الانترنت، يكتب فيها مدسوسون على الإسلام،
ويتبنى بعضهم باسم الإسلام هذه العمليات الإرهابية كما فعل ما
يسمى جناح القاعدة في أوروبا أو كما فعلت كتائب أبي حفص التي
يبدو أنها تستخدم مواقع للانترنت خارجة عن نطاق مزود الخدمة
الذي تديره شبكة واضحة العنوان في الولايات المتحدة بوسعها أن
تعرف مصدر ومضمون كل "إيميل" يرسله شخص لآخر بين شرق الأرض
وغربها. وأرجو أن يوضح لنا مختص بمواقع الانترنت سر عجز
الاستخبارات عن كشف مواقع القاعدة العلنية على الشبكة. كما
أرجو بالمناسبة أن يوضح لنا مختص آخر سر عجز المخابرات الدولية
عن ضبط مصادر الأشرطة الصوتية والسمعية التي كان يوجهها ابن
لادن أو الظواهري عبر قنوات تلفزية شهيرة كلما احتاجت الإدارة
الأميركية إلى تخويف الشعب الأميركي وتصعيد اهتمامه واستجداء
دعمه. والحقيقة أنه لم يعد خافياً على أحد من المسلمين أن
المدسوسين على الإسلام ممن ينتحلون أسماء وهمية مثل أبي حفص
وأبي حمزة وأبي قتادة وأبي مصعب وسواهم من الآباء هم موظفون
لدى جهات مجرمة تنظم وتمول الجرائم الإرهابية وتستخدم عملاءها
لإلصاق التهمة بالعرب وبالمسلمين. والمؤسف أن القادة السياسيين
يتجنبون مواجهة الأسئلة الحادة التي تؤكد وجود اختراقات خطيرة
في أجهزتهم الأمنية لا تقدر عليها إلا جهات دولية لها من
النفوذ في أوروبا وأميركا ما يمكنها من فعل ما تريد دون أن
يجرؤ على مساءلتها أحد. ونلحظ أن بعض من يعرفون الحقيقة لا
يجزمون ولكنهم يوحون بأن المسؤولية على المسلمين حتى وإن لم
تكن هناك أدلة. وها هو السيد فريدمان يقرر مسؤولية المسلمين
لمجرد احتمال أن تكون العملية جهادية انتحارية. وهو يقرر ذلك
لأن العملية تحمل بصمة القاعدة كما يقول.
وأنا لا
أبرئ القاعدة رغم شكي باستمرار وجودها حتى الآن، فقد تكون
القاعدة فرخت أنصاراً وأزلاماً لها دربتهم الجهات نفسها التي
دربت الأفغان العرب.بعض هؤلاء أقاموا سنين طويلة في بلاد الغرب
يتقاضون مرتبات من استخبارات غربية وكانوا ينشطون علناً منذ
الثمانينات وعلى مدى التسعينيات ويظهرون باستمرارعلى فضائيات
أوروبية وأميركية يدعون فيها إلى محاربة الكفار, ولم يسائلهم
أو يوقفهم عند حدهم أحد. أتساءل عن مواصفات بصمة القاعدة التي
تحدث عنها الكاتب؟ فهل المقصود بها العبقرية الخارقة التي تمكن
بها أبوحفص أو سواه من "الأبوات" من تهيئة أطنان من المتفجرات
في قلب العاصمة الكبرى لندن، في غفلة عن كل الحراس والشرطة
والمارة، والتي استطاع بها اختراق كل النظم الأمنية، تماماً
كما فعل تسعة عشر عبقرياً اخترقوا الولايات المتحدة وسيطروا
على المطارات الأميركية وتمكنوا وهم هواة طيران شراعي أن
يتعلموا قيادة "البوينج" في خمس دقائق مستخدمين كتاباًُ
بالعربية نسوه في سيارة على باب المطار, ومع ذلك حلقوا بدونه
في سماء نيويورك وواشنطن ببراعة مذهلة, اعترف كبار الطيارين
الأميركان المحترفين أنهم يعجزون عنها.
والغريب أن
عبقرية المنفذين لم تجد حلاً عبقرياً لمهمة تصوير العملية, فقد
اضطر المنفذون للاستعانة بفريق تصوير محترف من إسرائيل,
واستأجروا سيارة نقل تلفزيونية من شركة أميركية وقاموا بنصب
الكاميرات قبل أربعة أيام من العملية. وحين ألقي القبض عليهم
قام عمدة نيويورك آنذاك بإيصالهم إلى طائرة "العال" ليعودوا
إلى إسرائيل وقد نفذوا التصوير بمستوى عال.
إنني أشك
في كثير مما أرى على شاشات التلفزة وبما أسمع أو أقرأ من
أخبار. وحسبي تأمل ما حدث منذ مقتل الشهيد الحريري وما تبع ذلك
ضمن سيناريو الحملة المضادة لسوريا وقد اقتضى قتل بعض
السياسيين والصحفيين لإثارة الشعب اللبناني وتوجيهه عبر
الإعلام المتربص إلى اتهام سوريا والحكم عليها بلا أدلة. وهدف
الحملة على السوريين واضح ومعلن وهو إبعادها عن لبنان لإنهاء
قوة المقاومة فيه، وإعادته إلى ساحة صراعات طائفية ومذهبية،
ومن ثم إضعاف سوريا وإنهاء دورها القومي، وإجبارها على التنازل
عن حقوقها المشروعة لصالح إسرائيل, وهو ما ستخفق القوى
المعادية لسوريا في تحقيقه إن شاء الله، كما تخفق اليوم في
تحقيق أهدافها في العراق.
لقد أصبح
توجيه الاتهامات والأحكام بلا أدلة تقليداً سياسياً شرعته
الولايات المتحدة منذ أن وقعت جريمة سبتمبر، والولايات المتحدة
توجه اليوم إلى سوريا سيلاً من التهم دون أن تكلف نفسها عناء
تقديم الأدلة. فهي تتهمها بالسماح بتسلل إرهابيين إلى العراق،
وتتهمها بالمسؤولية عن الاغتيالات التي حدثت في لبنان بل لقد
اتهمتها مؤخراً بالمسؤولية عن تأخر إعلان تشكيل الحكومة
اللبنانية الجديدة، ثم اتهمتها بحصار لبنان لمجرد أن سوريا
أرادت أن تحمي نفسها من تسرب المتفجرات إليها بعد سيل من
التهديدات من الحاقدين عليها، وبعد أن ضبطت أجهزة الأمن عناصر
تخطط للقيام بالتفجيرات. وكل الدول في العالم تفعل الشيء ذاته
حين تشك بوجود خطر يهدد أمنها، بل إن الأميركان بالغوا في
تفتيش العرب واحتجازهم في المطارات بعد أحداث سبتمبر لمجرد
التأكد من أنهم لا يحملون في ملابسهم الداخلية أحزمة ناسفة.
وبالعودة
إلى مقال السيد فريدمان وإيحائه باتهام المسلمين بتفجيرات لندن
التي لم يعد أحد ينتظر الأدلة كي يقتنع بأن المسلمين هم
المجرمون الفاعلون فيها، فإن المأساة الراهنة هي أن العرب
والمسلمين باتوا مجبرين على ابتلاع الطعم وعلى قبول المسؤولية
عن أية تفجيرات إرهابية تحدث في العالم كله لأن رفض التهمة
سيبدو وكأنه دفاع عن القاعدة وتبرئة لها، بينما يعني قبول
التهمة والاعتذار عنها وقوفاً مع الحملة الدولية على الإرهاب
الذي أصبح في نظر العالم إرهاباً إسلامياً محضاً. وليس بوسع
أحد من العرب أو المسلمين أن يقول لقادة الغرب, نرجوكم أن
تطلعونا على مجريات التحقيق كي نتأكد من أن أبناءنا العرب
والمسلمين هم المجرمون حقاً، مع أنه من حق العرب والمسلمين أن
يطالبوا بتحقيق دولي على غرار التحقيق الذي يتم حول جريمة
مقتل الشهيد الحريري، فليت الأمم المتحدة تسارع لتشكيل لجنة
تحقيق دولية للتأكد من حقيقة اتهام العرب والمسلمين.
نحن في
أمس الحاجة إلى التأكد بعد أن أرهقنا الشك بمصادر الإعلام
الغربي والعربي معاً. ويزيد من ألمنا أننا نحزن لما أصاب الشعب
البريطاني وفي الوقت ذاته يدفع أبناؤنا من الجاليات المسلمة في
الغرب أثماناً باهظة لجرائم هم غير مسؤولين عنها. وينبهنا
السيد فريدمان إلى ذلك في قوله "إن كل مسلم سيصبح مشتبهاً به
وسينظر إليه على أنه قنبلة بشرية تمشي على قدمين".
|