أكتب قبل أن
ينتهي المؤتمر العاشر لحزب البعث، وقبل أن تصدر قراراته
وتوصياته، ولكنني أستشف من موقع المواطن أن شعار المؤتمر "رؤية
متجددة، فكر يتسع للجميع" سيفتح أفقاً نظرياً أوسع للحوار في
سوريا، ويلبي حاجة ماسة لفحص مثالب الواقع وسيئاته وتفهم خطورة
المخططات الصهيونية التي تريد إرهاق سوريا والعدوان عليها لكي
يتيسر للصهيونية طمس معالم الهوية العربية في المنطقة. إننا في
سوريا ندرك أبعاد وأهداف الهجمة المسعورة على بلدنا، ونعلم أن
أعداء هذه الأمة يستغلون الخلل الحاصل في الواقع السوري
الداخلي لتحقيق مآرب لا شأن لها بعملية الإصلاح. ولذلك طالب
الرئيس بشار الأسد أعضاء مؤتمر الحزب بأن يناقشوا احتياجات
سوريا للإصلاح بعيداً عن الضغوط الخارجية التي يراها شعبنا
مطالب تعجيزية، هدفها الإيقاع بسوريا، وتدمير قواها عبر تعميم
نظرية الفوضى "المبدعة" التي تستهدف تحطيم الأمة العربية
والإسلامية بلداً بعد بلد، لكي ينهض في المنطقة بناء جديد هو
إمبراطورية الصهيونية التي يسمونها اليوم تجميلاً "الشرق
الأوسط الكبير".
وأعتقد أن كثيراً من عقلاء وحكماء الولايات المتحدة باتوا
مستاءين من توظيف طاقات وإمكانات الدولة الأعظم في العالم وفي
التاريخ من أجل تحقيق أهداف صهيونية توراتية يؤمن بها متطرفون
تمكنوا من القبض على بعض أخطر مواقع القوة في العالم. ومن
يتابع ممانعة مجلس الشيوخ الأميركي لتعيين جون بولتون مندوباً
للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، يعلم أن سبب الممانعة هو
اتهام أعضاء ديمقراطيين لبولتون بأنه مارس ضغوطاً لاتهام سوريا
بامتلاك أسلحة دمار شامل عام 2003. وهؤلاء العقلاء سيتابعون
التحقيق في كل الأكاذيب التي ورطت الولايات المتحدة في مستنقع
الدم العراقي. ومثقفو أميركا يقرون بأن هذه المطالب الأميركية
من سوريا ليست لتحقيق مصالح أميركية في المنطقة, بل الهدف منها
تمكين إسرائيل فقط، وبعض قادة أميركا باتوا يصرحون بوضوح بأنهم
منحازون لإسرائيل وليسوا رعاة سلام أو وسطاء. والعقلاء
الحريصون على مستقبل العلاقة بين العرب والمسلمين من جهة
والولايات المتحدة من جهة أخرى يعلمون جيداً أن المطالب
الممكنة قد تم تحقيقها من قبل سوريا. وكانت الضغوط من قبل جزءاً
من برنامج العمل السوري, مثل الانسحاب من لبنان الذي بدأ منذ
عام ألفين وعلى مراحل، وكان سيتم حتى لو لم يصدر القرار الدولي.
ومثل دعم العملية السياسية في العراق، وقد تم بغض النظر عن
كونه مطلباً أميركياً، وإنما لحرص سوريا على الدم العراقي وعلى
أمن الشعب الشقيق, ولضرورة أن يمنح السياسيون العراقيون
الوطنيون فرصة إعادة بناء الدولة والمؤسسات وتوفير المستلزمات
والاحتياجات الضرورية لحياة المواطنين، ولدعم العمل السياسي ما
دام يسعى لإنهاء الاحتلال. وعلى الصعيد الفلسطيني أعلنت سوريا
دعمها لما يقرره الشعب الفلسطيني، وهي على تواصل مستمر وعلاقة
متينة مع السلطة الفلسطينية، ولكن من غير المعقول أن تلبي
سوريا مطالب تتناقض مع المصالح العليا لها وللأمة العربية
والإسلامية، وشعبنا يستغرب كيف تطلب الولايات المتحدة من سوريا
أن تساعدها لتمكين احتلالها للعراق.
أما الادعاء الأميركي بوجود متسللين فقد بات سخرية إعلامية،
لأن القاصي والداني يعلم أن المقاومة في العراق عراقية محضة،
وأن الإرهابيين الذين يتسللون لتشويه صورة المقاومة ليسوا
سوريين يسعون إلى قتل عناصر الشرطة العراقية أو إلى تفجير
السيارات في الأسواق الشعبية لقتل العشرات من الموطنين
الأبرياء. فالذين يفعلون ذلك هم مجرمون غرباء عن الأمتين
العربية والإسلامية يرسلهم إلى العراق من له مصلحة في تمكين
الاحتلال الأميركي وفي تشويه صورة المقاومين الشرفاء الذين
يستخدمون حقهم الإنساني في الدفاع عن وطنهم، والعراقيون ليسوا
بحاجة إلى الرجال ولا إلى السلاح كي يمدهم أحد, فقد سرحت
الولايات المتحدة جيشهم الكبير وباتت أسلحته بأيدي الشعب. وما
ذنب سوريا إن كانت مخططات الولايات المتحدة تخفق وتواجه وضعاً
غير مدروس وغير محسوب؟ الأميركيون يعترفون بأنهم لم يخططوا
جيداً لمرحلة ما بعد سقوط نظام صدام، والحقيقة أنهم خططوا وهم
المسؤولون عما يحدث من فوضى تكشّف سريعاً أنها هي الخطة منذ أن
بدأ نهب تراث العراق وكنوز متاحفه؟
أليس مثيراً للسخرية أن يطلب أحد من سوريا إرسال فرق من جيشها
للدفاع عن الاحتلال الأميركي ضد الشعب العراقي؟، وكم هو مثير
للسخرية كذلك أن يطلب أحد من سوريا بالذات أن تحارب "حزب الله"
وتفكك سلاحه بالقوة. والأمر ذاته حين تطلب الولايات المتحدة من
سوريا أن تساعد إسرائيل على التخلص من المقاومة الفلسطينية
التي أرهقت شارون وعجز عن سحقها، وباتت شعوب أوروبا وأميركا
والعالم كله تنظر إلى صمود الشعب الفلسطيني بإعجاب واحترام،
وهم يرون هؤلاء العزل الشرفاء البسطاء يحملون أرواحهم على
أكفهم ويقفون مدافعين وحدهم عن الأقصى, نيابة عن أمة إسلامية
لديها أكثر من ستين دولة في العالم.
لقد دعونا الولايات المتحدة إلى الحوار، وتقدمنا مع أشقائنا
العرب بالمبادرة العربية إلى السلام، ولم يعجب الصقور في
الإدارة الأميركية أن نطالب بحقوق شعبنا في أرضه المحتلة.
فهم يريدون من العرب أن يقدموا السلام لإسرائيل دون أي ثمن
تدفعه إسرائيل، يريدون أن يعلن العرب أنهم متنازلون عن حقوقهم
رغم أن الشرعية الدولية هي الضامن لها. وقد أعلن كبار القادة
الإسرائيليين أنهم لن ينسحبوا إلى خط الرابع من يونيو1967 ولن
يعترفوا بأي حق للعرب في القدس، ولن يعترفوا بحق الفلسطينيين
بالعودة، ولن يقبلوا بوجود أي نوع من الأسلحة الدفاعية لدى دول
المنطقة. فهم يريدون العرب ضعفاء واهنين، يقدمون السلام
لإسرائيل أذلاء صاغرين، وهذا ما يستحيل أن تقبله الشعوب
العربية.
والإسرائيليون يدركون استحالة ذلك ما دام الانتماء إلى العروبة
والإسلام مستمراً، ولذلك يشتغل فريق ضخم منهم لإنهاء الفكرة
القومية واجتثاثها، ولجعل الحديث عن أي تضامن عربي نوعاً من
التمسك بالعقلية القديمة التي بادت ولم تعد تصلح لعصر ما بعد
انهيار الاتحاد السوفييتي وانتصار الرأسمالية الغربية الذي
اعتبروه "نهاية التاريخ" ويعملون جاهدين على تشويه صورة
الإسلام العظيم، وسحبه من التداول في الحياة العربية العامة
لأنه مصدر قوة روحية للشعب العربي ولكل المسلمين، ولأنه يرسخ
في وجدان الأجيال حقوق الأمة في هذه المنطقة من العالم.
وعلى صعيد الوضع الداخلي في سوريا ندرك تماماً أن الوضع بات
مرضاً مؤلماً يحتاج إلى علاج سريع لا تباطؤ فيه. وقد كشفت
مناقشات مؤتمر الحزب الحاكم وعي أعضاء المؤتمر لأهمية المعالجة
السريعة الحتمية للقضايا الداخلية، ولمواجهة الفساد الذي
استشرى وبات معطلاً لحركة التقدم، وكان عنوان المؤتمر دليل عمل.
فالمدعوون إلى الحوار حددوا الهدف الذي يسعون إليه وهو وضع رؤى
تتجدد، وتحقيق أوسع قدر من المشاركة الشعبية في الحكم. وقد
يقال إن هذه شعارات للاستهلاك الإعلامي، فالمهم هو التطبيق
والتنفيذ. إلا أنني على الرغم من إحساسي بأن الفساد تحول إلى
سرطان يفتك بالجسد، وينهش القدرات, أجدني متفائلاً بتحول هذه
الشعارات إلى حقائق وإلى برامج عمل، لأن الداء بات يهدد الحياة،
وينذر بالويلات، ولم يعد ثمة بد من مواجهة الخطر المحدق بقوة
وفاعلية.
ولن أستبق ما قد يكون صدر عن المؤتمر يوم نشر هذا المقال،
لكنني أعتقد أن الحوار الوطني لن ينتهي مع انتهاء المؤتمر.
فالمؤتمر يتابع نقاشاً بدأ منذ سنين على الصعيد الرسمي والشعبي،
وحفلت به وسائل الإعلام المحلية والعربية. وقد وصل النقاش إلى
ذروة الإحساس بالمسؤولية في المؤتمر. وسيستمر هذا الحوار
لاستكمال تحقيق التجدد ولإنضاج فكر مبدع يتسع للجميع. والفكر
حركة وليس سكوناً، ولابد من رصد تفاعل كل شرائح المجتمع مع ما
سيصدر عن المؤتمر، للطمأنينة بأنه يمضي نحو فكر يسع الجميع حقاً
ويشارك الجميع في تكوين رؤيته، وقد تبدو الفكرة فضفاضة، فليس
ثمة فكر يقبله الجميع, ولكن المطلوب هو السعة للآخر وحرية
الرأي والتعبير، والحوار الوطني الدائر اليوم لا يقتصر على
المتحاورين من أعضاء حزب البعث، وإنما يشمل الشعب كله، ولا سقف
لهذا الحوار ولا شروط عليه غير الالتزام بالمصالح الوطنية
والعربية التي لا تقبل تفتيتاً ولا تفريطاً. |