لم يكن مفاجئاً أن
يصل الضغط على سوريا إلى هذه الدرجة من التصعيد، ولن أفاجأ إذا
ما تصاعد إلى عدوان إسرائيلي على أهداف في سوريا ولبنان، فما
يحدث الآن هو تنفيذ دقيق لسيناريو معلن تحدث عنه كثير من
الباحثين الغربيين الذين يسمح لهم أن يتحدثوا بحرية عن
المخططات، بينما يعاب على العرب أن يتحدثوا عنها لأنهم إذا
فعلوا فهم إذن ما يزالون يفكرون بعقلية قديمة وعفنة تؤمن
بنظرية المؤامرة التي تجعلهم يتوهمون أن إسرائيل تحيك
المؤامرات ضدهم. بل إن هذه النظرية التي يريد أذكياء العرب أن
يخلصوا منها أغبياءهم تدعو العرب إلى الظن بأن الإدارة
الأميركية تضمر الشر للعرب، وتريد السيطرة على مقدراتهم، وتسعى
إلى جعل إسرائيل أقوى دولة في الشرق الأوسط مع أن الولايات
المتحدة هي صانعة السلام وهي التي تخطط لإدخال العرب إلى جنة
الديمقراطية، وهي التي ستنقذ العرب من حكامهم المستبدين لتضع
مكانهم قادة ليبراليين يؤمنون بحرية الشعوب، ويمكنون المرأة
العربية المشلولة من النهوض. كما أن الولايات المتحدة تريد أن
تنقذ العرب من الأفكار الظلامية التي يقدسها دينهم الذي يدعوهم
إلى العنف والإرهاب، وتريد أن تخلص العرب من المشاعر العنصرية
التي تجعلهم يعادون السامية، والهدف الأهم للولايات المتحدة هو
تأهيل العرب والمسلمين للانخراط في العالم المتقدم الذي تخلفوا
عن موكبه طويلاً.
وإن كنت لا أنكر دور العرب أنفسهم في صنع مأساتهم، إلا أنني لا
أستطيع أن أصدق بأن الحلم العربي بالحرية والتحرير سيصنعه
للعرب صقور البنتاغون الذين كانوا على مدى عقود قوة داعمة
للفكر الظلامي ومسند ظهر للمستبدين في الأنظمة العربية. قرأنا
قبل الحادي عشر من سبتمبر ببضع سنوات ملامح الخطة التي يعلنها
الباحثون من الغرب، وقد بدأت ملامحها تتضح منذ أن قتل رابين
وتحلق حول نتنياهو مستشارون صاروا فيما بعد مستشارين في
البنتاغون، كانوا أول من انقلب على أوسلو، وأعلنوا انتهاء شعار
مبدأ مدريد "الأرض مقابل السلام" ليضعوا مكانه شعار "السلام
مقابل السلام" فهم لا يجدون مبرراً يدعو إسرائيل للتنازل عن
أراض احتلتها بالقوة، وهي بحاجة إلى المزيد من الأراضي، وما
دام العرب غير قادرين على استعادة حقوقهم بالقوة فما الذي يدعو
إسرائيل إلى إعادتها طوعاً. إن كان ذلك من أجل الحصول على
السلام، فالعرب هم المضطرون للسلام لحفظ أمنهم وأنظمتهم
السياسية، أما إسرائيل فبوسعها أن تطمئن لأمنها ومستقبلها
وتوسعها عبر استراتيجية أخرى تعتمد على ضمان التفوق العسكري
بفوارق ضخمة، تجعل الجيوش العربية عاجزة عن أية مواجهة نظامية،
وعبر سد كل الطرق أمام أية محاولة لتحقيق توازن قوة، وإنهاء ما
لدى العرب أو ما لدى إيران من طاقات عسكرية قائمة أو محتملة.
وأما ما يمكن أن يظهر من توازن رعب تحققه منظمات المقاومة (ولا
سيما بعد أن أصبح انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان ملهماً
للفلسطينيين في انتفاضتهم الثانية) فيمكن احتواؤه في إطار حملة
مكافحة الإرهاب. وقد واجهت إسرائيل صعوبات ضخمة لتحقيق هذا
الانقلاب على مدريد وأوسلو، حيث كانت الإدارة الأميركية
السابقة غير مقتنعة (كما يبدو) بإمكانية إعلان (شعار السلام
مقابل السلام) وبإمكانية تحقيق التطابق بين مشروع القرن
الأميركي ومشروع القرن الصهيوني. فقد كانت لدى الإدارة
الأميركية السابقة تحفظات على الجموح الإسرائيلي لم يخفه
كلينتون الذي كان مستاءً من نفوذ نتنياهو الذي وصل إلى حد
التهديد بإحراق واشنطن. ويبدو أن مخططي المشروع لم يكتفوا
بإحراج الرئيس بفضيحة مونيكا، حيث لم تنجح في دفع كلينتون إلى
زج الولايات المتحدة بكل طاقاتها وثقلها النوعي لتنفيذ المشروع
الصهيوني، فكان لابد من أن تشهد الولايات المتحدة حدثاً مريعاً
مثل الحادي عشر من سبتمبر لإقناع الشعب الأميركي بأنه لا يدخل
المعركة من أجل إسرائيل وإنما دفاعاً عن نفسه بعد أن وصلت
النار إلى ذقنه. وطبيعي أن يُتهم العرب والمسلمون بالمسؤولية
عن الجريمة، وقد شرب العرب المقلب. ولولا أن سيناريو اغتيال
الشهيد رفيق الحريري يقتضي اتهام سوريا لتم التركيز على أبي
عدس الفلسطيني، وأما اتهام سوريا بجريمة قتل الحريري فإنه يبدو
وكأنه تنفيذ حرفي لمقترحات تقرير أمير الظلام المقدم إلى مجلس
سياسة الدفاع الأميركي، فقد اقترح المستشار (استهداف سوريا عبر
ملف اتهامي بعلاقتها بالإرهاب، وباحتلالها للبنان، وبامتلاكها
أسلحة تدمير، فضلاً عن الملف الإصلاحي) وقد واكب هذا التقرير
قانون العقوبات على سوريا، ولعله وجد سبيل التطبيق السريع حين
تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق تفاهم مع الأوروبيين حول
مستقبل الشرق الأوسط الكبير في مؤتمر الثماني في "سي آيلاند"،
وهذا ما قد يفسر التحول المفاجئ في الموقف الفرنسي. فقد بدا
بعد هذه القمة أن "تروست" القرن الحادي والعشرين (كما سماه
السيناتور ريتشارد لوغار) قد انطلقت عرباته الأوروبية خلف قمرة
القيادة الأميركية. ويقضي تفاهم التروست، بأن تعتبر سوريا
وإيران الهدفين التاليين بعد العراق، وأن تتولى إسرائيل ضرب
سوريا وفلسطين بينما تتولى الولايات المتحدة ضرب إيران. وتقضي
الخطة حملة لتشويه صورة سوريا (وهذا ما ينفذه الإعلام وبعضه
عربي) حيث يتم اتهام سوريا ليس فقط بقتل صديقها الحريري، وإنما
بدعم الجرائم التي تنفذ في العراق ضد العراقيين البسطاء،
وبأنها المسؤولة عن عمليات المقاومة الفلسطينية التي تنفذ داخل
الأرض المحتلة، ولا سيما الأخيرة المصطنعة التي تبرأ منها
الفلسطينيون الذين ما كانوا سيخجلون من الاعتراف بها لو أنهم
فعلوها. وكان لابد للصهيونية من أن تقوم بحدث جلل كي يتم إجبار
سوريا ولبنان على تنفيذ القرار 1559 بضغط دولي، في وقت تمسك
فيه غالبية اللبنانيين بسقف الطائف، وهذا ما أكده الحريري
الشهيد في موقف معلن رفض فيه الانضواء تحت سقف القرار المشؤوم
الذي اندفع بعضهم إلى المطالبة بتنفيذه متجاهلين أنه لا يقضي
بانسحاب سوري فقط، وإنما يقضي بنزع سلاح المقاومة واللاجئين
الفلسطينيين، ولا يقدم أية رؤية نحو حل للصراع العربي
الإسرائيلي، بحيث يصبح نزع السلاح مبرراً.
ولن أقول لقد بدأ تنفيذ الخطوات التالية من المؤامرة الكبرى
على الأمة العربية والإسلامية، مع أنني أعتنق نظرية المؤامرة
دون أن أرفض نظرية المسؤولية عن الأخطاء الذاتية القاتلة.
سأقول بدأ تنفيذ المرحلة المتقدمة من مخططات تروست القرن
الحادي والعشرين، وأذكر مرة أخرى بمقدمة تقرير بيرل الشهير:"إن
العرب يعيشون في كارثة منذ قرنين، فقد فاتهم قطار الثورة
الصناعية، واليوم يفوتهم قطار الثورة الرقمية وهم يفتقدون
الدوافع الداخلية للتأقلم مع العالم الجديد، وأزمتهم هي
المسؤولة عن الهجوم الذي تعرضت له الولايات المتحدة التي بات
عليها أن تتولى التغيير الشامل في العالم العربي عدا سوريا
وفلسطين اللتين تتولاهما إسرائيل".
والمفجع أننا نحن العرب نقدم لخصومنا فرصاً ذهبية لتنفيذ
مخططاتهم، أحياناً حين نبالغ بالخوف منهم ونسعى إلى استرضائهم
بطريقة مذلة، وأحياناً بغباء سياسي، وبعدم القدرة على التصرف
السريع والحكيم. وأحياناً بإصرارنا على أخطاء تفتح الثغرات
والمنافذ وبفقداننا الثقة بعضنا ببعض وبدعائنا المستمر اللهم
أسألك نفسي، فإن كانت المأساة تصيب جاري فلا شأن لي بما يحدث،
دون أن ندرك أن النار حين تضطرم في بيت فإنها سرعان ما تمتد
لتحرق الدار والجار.
إن ما تتعرض له سوريا اليوم من ضغوط ليس شأناً سورياً داخلياً،
ولن ينتهي عند الانسحاب السوري من لبنان الذي سيتم سريعاً
تنفيذاً لاتفاق الطائف، فالقادم أخطر وأعظم. إنه مخطط يستهدف
الأمة بلداً بعد بلد، ليشعل الحرائق في كل أقطار العرب ولن
يكون أحد بمأمن، فلنسارع إلى إطفاء النار قبل أن تلتهم بقية
حضورنا كأمة.
|