بات موضوع الإصلاح
في سوريا قضية تتابعها وسائل الإعلام العربية والدولية وتربطها
بالضغوط الراهنة على سوريا وتجعلها وسيلة وحيدة لمقاومة الخطر
المحدق، مع أن هذه الضغوط ليست وحدها التي تضع سوريا على
المفترق. فالحاجة إلى التغيير والإصلاح حاجة وطنية وموضوعية
مستمرة، وقد بدت ملحة منذ أن تبدل العالم بعد سقوط الاتحاد
السوفييتي وتهاوت أنظمة كانت آيلة للسقوط بعد أن نخر الفساد
عظامها. كانت سوريا تعيش في أواخر الثمانينيات حالة ترقب مدركة
أهمية التغيير ولا سيما في المجال الاقتصادي على الرغم من أن
الاشتراكية لم تكن نهجاً وحيداً في سوريا لأنها أفسحت المجال
منذ مطلع السبعينيات للتعددية الاقتصادية. ولكن هذه التعددية
المتعثرة لم تحجب عن سوريا سلبيات النظام الاشتراكي في
الاقتصاد، فقد شكت طويلاً من سكونية القطاع العام ومن خسائره
المستمرة، ومن تحول التوظيف الحكومي إلى توظيف اجتماعي يهدف
إلى إيجاد وسائل معيشة بالحد الأدنى للمتدفقين إلى سوق العمل
ولكنه شكل مع التراكم الكمي عبئاً على الميزانيات وعلى سوية
العمل والإنتاج. وقد أسهم في زيادة الخسائر ربط الإيديولوجيا
بالاقتصاد، وتولي الموظفين الحكوميين مسؤوليات الإنتاج
والتجارة مع ضعف الشعور بالمسؤولية لدى بعضهم، أو ضعف قدرة
بعضهم على النجاح في إدارة المؤسسات الاقتصادية التي تولوها
بمؤهلات غير اقتصادية.
كما أن سياسة دعم الأسعار لمعالجة ضعف الدخول أفاد منها
المحتاج وغير المحتاج، وقد شكلت عبئاً كبيراً على الميزانيات.
وقد أدرك المعنيون بالاقتصاد ضرورة التراجع عن كل ما هو خاسر
وفاشل، وبدأت الدولة بالانسحاب من المسؤولية الشمولية لتتفرغ
للمشروعات الحيوية والاستراتيجية الكبرى التي ينبغي أن تكون
قطاعاً عاماً أو ملكية عامة وفتحت الآفاق أمام القطاع الخاص
للاستثمار في كل الميادين والمجالات. ولكون المرحلة انتقالية
وقعت بعض خطوات الإصلاح الاقتصادي بالتعثر، وجاءت بعض مظاهره
مشوهة أو مضطربة، لأن رؤية الشكل الجديد للاقتصاد لم تحسم في
الخيارات.
فهناك من يصر على النهج الاشتراكي والشمولي ويجد التراجع عنه
تراجعاً عن منجزات ومكتسبات الجماهير، بينما يرى آخرون أن الحل
الوحيد هو اعتماد اقتصاد السوق والانسجام التام مع آليات
الاقتصاد العالمي، وهناك من يرفض الخصخصة ويراها انحرافاً نحو
الرأسمالية التي تتعارض مع الإيديولوجيا السائدة في عقل الدولة،
بينما يرى آخرون أن من الصعب أن تستمر الدولة في تغطية الخسائر
بالمليارات. وقد أوشك أن ينجح فريق وسطي يقبل الخصخصة في بعض
المناحي الاقتصادية ويرفضها في مواضع حيوية أخرى، كما أوشك أن
يحسم خيار التوجه الكامل نحو اقتصاد السوق.
وعلى صعيد العمل السياسي بادرت سوريا إلى مشاركة سياسية شعبية
غير حزبية عبر زيادة عدد مقاعد المستقلين في مجلس الشعب، حيث
دعت في عام 1990 إلى انتخابات نيابية شفافة بالقياس لما كان
عليه الحال، وتمكن الدور التشريعي الخامس من أن يحقق معالجات
سريعة لعدد من القضايا المهمة آنذاك. فقد عولجت مشكلات الزراعة.
وتحولت الشكوى من نقص الإنتاج الزراعي إلى شكوى نقص في وسائل
تصدير الفائض ولا سيما للقمح والحمضيات. كما عالج المجلس
مشكلات الاستثمار عبر القانون رقم 10 وتدفقت استثمارات سورية
وعربية لكن المؤسف أن كثيراً منها جاء شكلياً يهدف إلى
الاستفادة من مزايا القانون دون تحقيق أهدافه. وقد واجهت حركة
الإصلاح عقبات مفتعلة، وفوجئ المتحمسون من أعضاء مجلس الشعب (وكنت
أحدهم) بشعور بالخيبة، ولكنهم استعادوا حيويتهم حين حمل
الدكتور بشار الأسد لواء الإصلاح منذ منتصف التسعينيات.
كانت الممانعة التي أبداها من يخشون الإصلاح تتخذ أشكالاً
متعددة، لكن أخطرها كان ركوب موجة الإصلاح ذاته، إلى درجة أن
من كان يزور المسؤولين في كل مفاصل الدولة يجد الجميع يتحدثون
عن الإصلاح بحماس وشغف فيقول في نفسه ما دام الجميع مقتنعين
ومتحمسين فمن الذي يعرقل حركة الإصلاح إذن؟ أهو الفكر
والإيديولوجيا التي رسمت عبر عقود رؤية وحيدة للعالم؟ أم هو
ضعف الشعور بالمسؤولية العامة؟ أم هو غياب المبادرة الذاتية
انتظاراً لقرار قيادي يعفي من التفكير ومن تحمل مسؤولية القرار
في المستويات الدنيا؟ أم هو تواطؤ عام على تجاهل الحقائق إلى
درجة أن الشعارات باتت في واد والتطبيق في واد آخر، ومع ذلك
تبقى الشعارات في الصدارة رغم أنها فقدت دلالاتها؟ أم هو الخوف
من التغيير بوصفه تحولاً نحو مجهول قد يحمل تهديداً للمستقر
والساكن؟ أم هو خوف على المصالح الصغيرة وعلى المزايا التي
توفرها المناصب الكبيرة؟ أم هو استئثار وخوف من أن يجلب
التغيير شركاء مشاكسين يصعب ضمان ولائهم؟ وقد لا تتوقف الأسئلة
في هذا السياق وقد يكون كل ذلك أو بعضه صحيحاً، لكن المشكلة
الأهم التي واجهها الإصلاح هي الخوف من الوقوع في الهزات
والفوضى التي وقعت بها بعض دول المنظومة الاشتراكية في مراحل
التحول الجذري، وهذا ما يفسر الحرص على أسلوب التدرج والبطء في
الحركة الإصلاحية وتهيئة الكوادر والكفاءات القادرة على
استيعاب المتطلبات الجديدة والتفاعل معها.
ولقد تم إلغاء معايير الولاءات الصغيرة واعتماد الكفاءة
والولاء الوطني العام، وتمت الاستعانة بالكفاءات السورية
المغتربة وتم وضع برامج جادة للتأهيل والتدريب، فلم تكن عقبات
الإصلاح على أهميتها توقف حركته، وإنما كانت تحد من طموحه. فقد
تم تحديث عشرات القوانين، ولكن بعض اللوائح التنظيمية أفقدتها
فاعليتها، وبعضها واجه صعوبات تقنية في التنفيذ. ويخطئ من
يعتقد أن سوريا لم تفهم المتغيرات الدولية، ولكن فهم المتغيرات
لا يعني التنازل عن الثوابت والحقوق. وبعض المطالب التي قدمت
إلى سوريا تحت يافطة المتغيرات كانت مطالب إسرائيلية محضة كتلك
التي تتعلق بطرد بعض قادة المقاومة الفلسطينية الذين كانوا
يقومون بنشاط إعلامي يدعون فيه إلى حقوق مشروعة دولياً، وبعض
المطالب كان تهماً ألقيت جزافاً كالمسؤولية عن دخول إرهابيين
إلى العراق عبر الحدود، وقد تم كشف هذه الأكاذيب، وأدرك العالم
حرص سوريا على أمن واستقرار الشعب العراقي وعلى نجاح العملية
السياسية في العراق. ولقد تفنن الذهن الصهيوني في ابتكار
الأفخاخ لإضعاف موقف سوريا وزجها في مواقف محرجة وكان آخر
الأفخاخ قتل الشهيد الحريري وما نجم عن الجريمة النكراء من
تداعيات.
لقد كان الانسحاب السوري الكامل من لبنان قراراً حكيماً،
وتأكيداً على حرص سوريا على الشرعية التي دخل الجيش السوري إلى
لبنان في إطارها. كما أن عقلانية التعامل السوري مع انفعالات
المعارضة اللبنانية التي غالى بعض أفرادها في تعبئة المشاعر ضد
سوريا، أسهمت في عودة الوعي لدى بعض الوطنيين اللبنانيين الذين
غابت عنهم في غمرة الحزن والانفعالات أبعاد المؤامرة الخطيرة
التي تحاك ضد سوريا ولبنان معاً، وقد أدركوا وسيدرك الآخرون أن
سوريا هي العون الكبير لهم في كل حين. واليوم ترتفع أصوات
أوروبية وأميركية تطالب سوريا بالإصلاح، ولا يغيب عن الشعب في
سوريا أن هذه الأريحية الغربية هي حق يراد منه باطل، لأن
الإصلاح الذي تريده الدوائر الغربية هو إلحاق سوريا بمشروع
الإمبراطورية الشرق أوسطية التي يتم التخطيط لتنصيب إسرائيل
عاصمة لها، بينما يريد الشعب في سوريا إصلاحاً يمكن سوريا من
الحفاظ على الثوابت الوطنية ومن تعزيز مكانتها الإقليمية
والدولية.
وقد حظي الإعلام في سوريا بفيض من النقد باعتباره الواجهة، ولم
يكن سهلاً إصلاحه في وضعه الراهن، وكان الأجدى أن يصنع إعلام
بديل تتغير فيه سكة العربة، حيث لا يكفي تبديل سائق القطار ما
دامت السكة تجبره على طريق محدد لا يملك الخروج منه. ولهذا لم
يستطع وزراء الإعلام المتعاقبون تحقيق ما طمحوا إليه من قفزات،
وكان لابد من إطلاق حرية الإعلام دون الوقوع في فخ نظرية
الحياد الواهمة. وبوسع الإعلام أن يقود الحركة الإصلاحية وأن
يؤسس لحوار وطني شامل، وأن يفسح منابر التعبير لكل الآراء
والأفكار دون أن تتحمل القيادة السياسية مسؤولية عن كل مقال أو
زاوية رأي أو حديث تلفزيوني، وبوسع الإعلام أن يكافح الفساد
بالفضح، وأن يكون عين الدولة والمجتمع على سيادة القانون.
والمجتمع السوري يتطلع اليوم إلى مؤتمر حزب البعث في نهاية شهر
مايو القادم الذي سيشهد تحولات مهمة. كل شيء بات قابلاً للحوار
والنقاش في شفافية غير مسبوقة لا تستبعد حتى نقاش الحاجة
لتعديلات في الدستور، ولسن قوانين وتشريعات حاسمة في الإصلاحات
السياسية والاقتصادية والقضائية والإدارية، وفي ترسيخ
الديمقراطية التي تتسع لكل أطياف العمل السياسي، وفي تأكيد
احترام كامل لسيادة القانون وحقوق الإنسان. وأعتقد أن تحسين
المناخ الاستثماري وإقبال المستثمرين السوريين المغتربين على
ضخ أموالهم في بلدهم سيكون عوناً للوطن لتحقيق ما نطمح إليه من
نهضة شاملة، كما أن الخطوات التي اتخذتها سوريا لإنهاء
المشكلات العالقة منذ الثمانينيات مع المعارضة الوطنية، تفتح
الباب واسعاً لحل نهائي يعمق الوحدة الوطنية وهي الحصن الذي
يمكن سوريا من تحقيق طموحاتها التحديثية ومن مقاومة المشاريع
التي تهدف إلى زعزعة الانتماء إلى العروبة والإسلام في أرجاء
الشرق الأوسط الكبير. |